مقتل الأمير عثمان بن معمر :

كما مر بنا يُعَدُّ الأمير عثمان بن معمر أول أمير نجدي يؤيد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وينقلها إلى حيز التطبيق العملي في العيينة، ثم استمر في مناصرتها بعد رحيل الشيخ إلى الدرعية وتبنى الإمام محمد بن سعود تأييد الشيخ ونصرته بعد ذلك.



وأثناء إقامة الشيخ في العيينة صار له اتباع ومناصرون، رحل بعضهم إلى الدرعية بعد أن استقر بها الشيخ، وكان من بينهم عبد اللّه وزيد وسلطان أبناء محسن بن معمر، وأقاموا فيها بسبب خلاف بينهم وبين أمير البلد عثمان بن معمر ووصفهم ابن بشر بالمعاكسين لعثمان، بينما وصفهم ابن غنام بالمخالفين له ، واللفظان لهما المعنى نفسه، ولا أستبعد أن هناك طموحات سياسية وراء تلك الخطوة التي اتخذوها، إذ استطاع أحدهم وهو سلطان بن معمر بعد 14 عاماً من رحيله من العيينة، أن يرشح أميراً لها عام 1173هـ بعد عزل أمير العيينة مشاري بن معمر من قبل الدرعية.

كان هناك خلاف بين الأمير عثمان وبعض سكان العيينة الذين استغلوا بعض أعماله وفسروها كما يروق لهم بهدف النيل منه والإساءة إليه، وأول تلك الإساءات تفسيرهم إرسال عثمان فارسين من فرسان العيينة لحماية الشيخ عند رحيله منها للدرعية بأنهما أرسلا لقتل الشيخ في الطريق بين العيينة والدرعية.


وصدق الكثير من العامة هذا القول بل وصل الأمر إلى توثيقه من بعض المؤرخين كابن بشر الذي قال ما نصه : « فأمر - يقصد الأمير عثمان بن معمر فارساً عنده يقال له الفريد مع خياله معه منهم طوالة الحمراني ، وقال : اركب جوادك وسر بهذا الرجل إلى ما يريد فقال الشيخ : أريد الدرعية، فركب الفارس جواده والشيخ يمشي راجلاً أمامه، وليس معه إلا المروحة، وذلك في غاية الحر في فصل الصيف، فقال ابن معمر لفارسه : إذا أنت وصلت إلى أخيه يعقوب فاقتله عنده، وكان يعقوب هذا رجلاً صالحاً قتل ظلماً بين الدرعية والعيينة، وجعل في غار جبل هناك على قارعة الطريق. ونسب الشيخ إلى إخوته لأجل الصلاح، فسار الفارس والشيخ أمامه وهو لا يلتفت ويلهج بقوله تعالى (ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب) وسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر، والفارس لم يكلمه، فلما هم بقتله كف اللّه عنه يده وأبطل كيده وقذف اللّه سبحانه في قلبه الرعب حتى ما استطاع أن يمشي قدماً، فحرف جواده وانصرف إلى «العيينة» وقال لعثمان : إنه أصابني رعب عظيم حتى خفت على نفسي».

ولكن ابن بشر نفسه تأكد بعد ذلك من عدم صحة هذا الادعاء فرأى أنه من الأمانة العلمية أن يصحح ما سبق أن وقع فيه من خطأ، بناء على رواية مختلقة، فصحح ما سبق أن سجله بقوله : «أعلم رحمك اللّه أني قد ذكرت في المبيضة الأولى أشياء نقلت لي عن عثمان بن معمر وفرسانه، أنه أمرهم بقتل الشيخ في الطريق وغير ذلك، ثم تحقق عندي أنه ليس لها أصلاً بالكلية فطرحتها من هذه المبيضة»، وهذا يؤكد أن هناك كثيراً من الافتراءات اختلقت ضد الأمير عثمان بن معمر.


وثانيها:
انتهاز المعارضين اجتماع الأمير عثمان بن معمر عام 1160هـ بكل من أمير الرياض دهام بن دواس وأمير ثرمداء إبراهيم بن سليمان العنقري في العيينة الذي حاول فيه عثمان المصالحة بين خصوم الدعوة والقائمين عليها، وأرسل إلى الشيخ في الدرعية يدعوه لحضور الاجتماع ، ولكن المعارضين له في العيينة أرسلوا للشيخ محمد يحذرونه من حضور الاجتماع فاستجاب لتحذيرهم، مما أسهم في فشل ذلك الاجتماع. ونتيجة لذلك قدم عثمان بن معمر على الشيخ في الدرعية وأوضح له وجهة نظره عندها أسندت لعثمان بن معمر قيادة جيش الدعوة لكفاءته وإظهاراً للثقة فيه. وأثناء موقعة البطين ضد ثرمداء استغل المعارضون له رفضه دخول البلد وخلافه مع صهره عبد العزيز بن محمد بن سعود حول ذلك، واتهموه بموالاة المعارضين للدعوة وأخيراً استغل المعارضون له المراسلات بينه وبين الشيخ محمد بن عفالق وزعموا أنها تهدف إلى معاداة الدعوة الإصلاحية، وحينما تطرق ابن بشر لتلك الرسائل قال : «وقيل إنه أتاه كتاب من محمد بن عفالق يحرضه على معاداة المسلمين ونقض بيعتهم».

ولكن يتضح من ردود عثمان بن معمر على رسالتين تلقاها من ابن عفالق إن موقفه مؤيد للدعوة الإصلاحية، ويدافع عنها ويرغِّب الشيخ ابن عفالق في اعتناقها، ولم يتضح من تلك الردود أن عثمان نهج موقفاً عدائياً ضد الدعوة الإصلاحية.

على أية حال يبدو أن فتوراً في العلاقة بين الأمير عثمان بن معمر قائد جيوش الدعوة وبين الدرعية قد حصل. ويمكن تفسير عدم قيادة عثمان لجيش الدعوة في موقعة الحبونيه عام 1162هـ وما تلاها من وقعات صغيرة بين الدرعية والرياض في العام نفسه بأنه دليل على ذلك الفتور، وهنا تبرز علامة استفهام تقودنا لسؤال عن سبب هذا الفتور الذي دب بين القائم على الدعوة وأبرز وأقدم مناصريه ومؤازريه ؟

قد لا يجد الباحث في الكتب المعاصرة وخاصة بين مؤرخي الدعوة كابن غنام وابن بشر أو المؤرخين القريبين من تلك الأحداث كالفاخري وحسن الريكي ومؤلف كتاب «كيف كان خروج شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب» إجابة واضحة وكاملة ومقنعة على تساؤلنا إلا أن مؤرخي الدعوة كابن غنام وابن بشر يردان ذلك الفتور لمضايقة عثمان المعارضين له من المتحمسين للدعوة في العيينة دون ذكر نوعية تلك المضايقة أو أسبابها.

ولعل سببها محاولة تدخل كل من المعارضين لعثمان والمتحمسين للدعوة في الأمور السياسية في العيينة، وهذا لم يرق لعثمان الذي يظهر أنه يحبذ إبعاد العامة في العيينة عن السياسة، وشكى هؤلاء الوضع للشيخ في الدرعية الذي أعطاهم الضوء الأخضر للمواجهة مع الأمير، وهذا ما ذكره ابن غنام عندما قال : « لما تزايد شر عثمان على أهل التوحيد وظهر بغضه لهم وموالاته لأهل الباطل، وتبين الشيخ صدق ماكان يروى عنه ، وجاء أهل البلاد كافة، وشكوا خشيتهم من غدره بالمسلمين، قال الشيخ حينئذ لمن وفد إليه من أهل العيينة : أريد منكم البيعة على دين اللّه ورسوله وعلى موالاة من والاه ومعاداة من حاربه وعاداه، ولو أنه أميركم عثمان، فأعطوه على ذلك الإيمان وأجمعوا على البيعة فمُلي قلب عثمان من ذلك رعباً وزاّد مافيه من الحقد، وزين له الشيطان أن يفتك بالمسلمين، ويجليهم لأقصى البلدان، فأرسل إلى ابن سويط وإلى إبراهيم بن سليمان رئيس ثرمداء يدعوهما للمجيء عنده لينفذ ماعزم عليه من الإيقاع بالمسلمين.

فلما تحقق أهل الإسلام ذلك، تعاهد على قتله نفر، منهم : حمد بن راشد وإبراهيم بن زيد ، فلما انقضت صلاة الجمعة، قتلوه في مصلاه بالمسجد».

وذكر ابن بشر نحواً من هذا الكلام في كتابه عنوان المجد نسخة دارة الملك عبدالعزيز، أما في نسخة مطابع القصيم فقال : « ثم دخلت سنة 1163هـ وفيها قتل عثمان بن معمر في مسجد العيينة بعد صلاة الجمعة، انتدب لقتله أناساً من جماعته، ذكروا أنهم تحققوا منه نقض العهد وموالاة الأعداء وممالاتهم. وقيل إنه أتاه كتاب من محمد بن عفالق يحرضه على معاداة المسلمين ونقض بيعتهم، وكانت بنته تحت عبد العزيز وهو جد ولده سعود. وحين قتل عثمان وسعود رضيع لم يتم السنتين، ولكن ليس في الدين محاباة. فلما سلم من الصلاة قام إليه من ذكرناه فقتلوه، ومن مشاهير الذين تولوا قتله حمد بن راشد وإبراهيم بن زيد الباهلي وموسى بن راجح وكان ذلك في منتصف رجب من هذه السنة» أي سنة 1163هـ . أما مؤلف كتاب، كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب» حينما تكلم عن الشيخ محمد رحمه اللّه قال : « وبعث إلى جماعة له بالعيينة ثمانية رجال، وذبح عثمان بن معمر وحوله عددٌ من عبيده».

وذكر أحد تقارير شركة الهند الشرقية الإنجليزية عام 1213هـ/1798م - أي بعد مقتل عثمان بخمسين عاماً ، تقريباً في الوقت الذي ألف فيه ابن غنام تاريخه - عن أسباب انتقال الشيخ من العيينة للدرعية، ويذكر أن خلافاً نشأ بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعثمان بن معمر رحمهم اللّه ، مما أدى إلى أن يقوم الشيخ بقتل ابن معمر رغم قرابته ، لكن على الرغم من مخالفة هذا التقرير لبعض المصادر المحلية إلا أنه يتفق مع بعضها حول مقتل عثمان ، أما الدكتور العثيمين فقال عن عثمان ومقتله : ثم أصبح قائداً لجيوش الدرعية في غزوات متعددة، لكن بعض تصرفاته أثارت الشكوك حوله، وكانت نهايته أن قتل على أيدي المتحمسين للدعوة من جماعته. على أية حال لا أرى أن سبب مقتله تنكره للدعوة أو تغير موقفه منها كما رواه بعض المؤرخين الذين استعرضنا أقوالهم، وأرجح أنه خلاف مع بعض سكان العيينة، وبهذا استطاعوا توسيع شقة الخلاف بينه وبين الدرعية إلى أن كان لهم ما أرادوا. وبعد مقتله ذكر ابن غنام أن الشيخ انتقل للعيينة لترتيب الأوضاع فيها بعد مقتل أميرها . وهذه أول مرة يخرج فيها الشيخ من الدرعية بعد أن قدم إليها عام 1157هـ . وعندما ناقش الشيخ حمد الجاسر مقتل عثمان بن معمر، قال : « لقد مضى الرجل لسبيله، وكما يقال : (الغائب حجته معه)، ولكنه فتح بكثير من تصرفاته للناقمين عليه أبواباً واسعة للنيل منه، ولا يعنينا الآن إلا أن تبدو الصفحـات الأولى من تاريخ الدعوة المباركة ناصعة البياض، وأن لا يتهم دعاتها ومناصروها بتنكرهم لمؤازريهم.

ويكاد متتبع تاريخ القضية أن يجزم بأنه لا يد للشيخ محمد ولا للإمام محمد بن سعود في قتل ذلك الرجل، وأن الأمر وقع في وقت لم تستقر فيه أوضاع الدولة الناشئة، ولم تثبت دعائم الدعوة. ومن المعروف أن كل حركة من حركات التغيير الاجتماعية يصاحب قيامها فوضى وعدم انضباط في كثير من أمورها قبل استقرارها، وكثيراً ما استغل ذوو الأغراض - من المناصرين لتلك الحركة أو من أعدائها - ذلك لتحقيق أغراضهم.

وكان مقتل عثمان بن معمر كما مر بنا بعد صلاة الجمعة في الثاني عشر من شهر رجب عام 1163هـ وبقتله فقدت الدولة شخصية لعبت أدواراً مهمة فيها. وخلف عثمان رحمه اللّه ابنين هما ناصر الذي استشهد عام 1182هـ وعبد اللّه الذي مات عام 1225هـ رحمهما اللّه.